فصل: استحقاق المرهون بعد بيع العدل له

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


استحبابٌ

التّعريف

1 - الاستحباب في اللّغة‏:‏ مصدر استحبّه إذا أحبّه، ويكون الاستحباب بمعنى الاستحسان، واستحبّه عليه‏:‏ آثره‏.‏ والاستحباب عند الأصوليّين غير الحنفيّة‏:‏ اقتضاء خطاب اللّه العقل اقتضاءً غير جازمٍ، بأن يجوز تركه‏.‏ وضدّه الكراهية‏.‏

2 - ويرادف المستحبّ‏:‏ المندوب والتّطوّع والطّاعة والسّنّة والنّافلة والنّفل والقربة والمرغّب فيه والإحسان والفضيلة والرّغيبة والأدب والحسن‏.‏ وخالف بعض الشّافعيّة في التّرادف المذكور - كالقاضي حسينٍ وغيره - فقالوا‏:‏ إنّ الفعل إن واظب عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهو السّنّة، وإن لم يواظب عليه - كأن فعله مرّةً أو مرّتين - فهو المستحبّ، وإن لم يفعله - وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد - فهو التّطوّع، ولم يتعرّضوا للمندوب هنا لعمومه للأقسام الثّلاثة بلا شكٍّ‏.‏ وهذا الخلاف لفظيٌّ، إذ حاصله أنّ كلاًّ من الأقسام الثّلاثة، كما يسمّى باسمٍ من الأسماء الثّلاثة كما ذكر، هل يسمّى بغيره منها ‏؟‏ فقال البعض‏:‏ لا يسمّى، إذ السّنّة‏:‏ الطّريقة والعادة، والمستحبّ‏:‏ المحبوب، والتّطوّع‏:‏ الزّيادة‏.‏ والأكثر قالوا‏:‏ نعم يسمّى، ويصدق على كلٍّ من الأقسام الثّلاثة أنّه طريقةٌ أو عادةٌ في الدّين، ومحبوبٌ للشّارع بطلبه، وزائدٌ على الواجب‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ المستحبّ هو ما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّةً وتركه أخرى، فيكون دون السّنن المؤكّدة كما قال التّهانويّ، بل دون سنن الزّوائد كما قال أبو البقاء الكفويّ‏.‏ ويسمّى عندهم بالمندوب لدعاء الشّارع إليه، وبالتّطوّع لكونه غير واجبٍ، وبالنّفل لزيادته على غيره‏.‏ وإنّما سمّي المستحبّ مستحبّاً لاختيار الشّارع إيّاه على المباح‏.‏ وهم بهذا يقتربون ممّا ذهب إليه القاضي حسينٌ، لولا أنّهم يختلفون معه في التّطوّع، حيث يجعلونه مرادفاً للمستحبّ، ويجعله قسيماً له على ما تقدّم، ويفرّقون بين المستحبّ وبين السّنّة بأنّها هي‏:‏ الطّريقة المسلوكة في الدّين من غير التزامٍ على سبيل المواظبة، فيخرج المستحبّ بالقيد الأخير، إذ لا مواظبة عليه من قبل النّبيّ عليه الصّلاة والتّسليم‏.‏ وبعض الحنفيّة لم يفرّق بين المستحبّات وسنن الزّوائد، فقال‏:‏ المستحبّ هو الّذي يكون على سبيل العادة، سواءٌ أترك أحياناً أم لا‏.‏ وفي نور الأنوار شرح المنار‏:‏ السّنن الزّوائد في معنى المستحبّ، إلاّ أنّ المستحبّ ما أحبّه العلماء، والسّنن الزّوائد ما اعتاده النّبيّ عليه السلام‏.‏ هذا وقد يطلق المستحبّ على كون الفعل مطلوباً، طلباً جازماً أو غير جازمٍ، فيشمل الفرض والسّنّة والنّدب، وعلى كونه مطلوباً طلباً غير جازمٍ فيشمل الأخيرين فقط‏.‏ حكم المستحبّ‏:‏

3 - ذهب الأصوليّون - من غير الحنفيّة - إلى أنّ المستحبّ يمدح فاعله ويثاب، ولا يذمّ تاركه ولا يعاقب‏.‏ وذلك لأنّ ترك المستحبّ جائزٌ‏.‏ غير أنّ هذا التّرك إن ورد فيه نهيٌ غير جازمٍ نظر‏:‏ فإن كان مخصوصاً، كالنّهي في حديث الصّحيحين‏:‏ «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين» كان مكروهاً، وإن كان نهياً غير مخصوصٍ، وهو النّهي عن ترك المندوبات عامّةً المستفاد من أوامرها، فإنّ الأمر بالشّيء يفيد النّهي عن تركه، فيكون خلاف الأولى، كترك صلاة الضّحى‏.‏ وذلك لأنّ الطّلب بدليلٍ خاصٍّ آكد من الطّلب بدليلٍ عامٍّ‏.‏ والمتقدّمون يطلقون المكروه على ذي النّهي المخصوص وغير المخصوص، وقد يقولون في الأوّل‏:‏ مكروهٌ كراهةً شديدةً، كما يقال في المندوب‏:‏ سنّةٌ مؤكّدةٌ‏.‏ أمّا الحنفيّة فإنّهم ينصّون على أنّ الشّيء إذا كان مستحبّاً أو مندوباً عندهم وليس سنّةً فلا يكون تركه مكروهاً أصلاً، ولا يوجب تركه إساءةً أيضاً فلا يوجب عتاباً في الآخرة، كترك سنن الزّوائد، بل أولى في عدم الإساءة وعدم استحقاق العتاب؛ لأنّه دونها في الدّوام والمواظبة، وإن كان فعله أفضل ولمعرفة ما تبقّى من مباحث الاستحباب، ككون المستحبّ مأموراً به، وهل يلزم بالشّروع فيه ‏؟‏ يرجع إلى الملحق الأصوليّ‏.‏

استحدادٌ

التّعريف

1 - الاستحداد لغةً‏:‏ مأخوذٌ من الحديدة، يقال‏:‏ استحدّ إذا حلق عانته‏.‏ استعمل على طريق الكناية والتّورية‏.‏ والتعريف الاصطلاحيّ لا يفترق عن المعنى اللّغويّ، حيث عرّفه الفقهاء بقولهم‏:‏ الاستحداد حلق العانة، وسمّي استحداداً، لاستعمال الحديدة وهي‏:‏ الموسى‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإحداد‏:‏

2 - الإحداد‏:‏ مصدر أحدّ‏.‏ وإحداد المرأة على زوجها تركها للزّينة، فعلى هذا يكون الاستحداد مخالفاً للإحداد، ولا يشترك معه في وجهٍ من الوجوه‏.‏

ب - التّنوّر‏:‏

3 - التّنوّر هو‏:‏ الطّلاء بالنّورة‏.‏ يقال‏:‏ تنوّر‏.‏ تطلّى بالنّورة ليزيل الشّعر‏.‏ والنّورة من الحجر الّذي يحرق، ويسوّى من الكلس، ويزال به الشّعر‏.‏ فعلى هذا يكون الاستحداد أعمّ في الاستعمال من التّنوّر، لأنّه كما يكون بالحديدة يكون بغيرها كالنّورة وغيرها‏.‏

حكمه التّكليفي

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستحداد سنّةٌ للرّجال والنّساء على السّواء‏.‏ وصرّح الشّافعيّة، والمالكيّة دون غيرهم بالوجوب للمرأة إذا طلب منها زوجها ذلك‏.‏

دليل مشروعيّته

5 - يستدلّ على مشروعيّة الاستحداد بالسّنّة؛ لما روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه قال‏:‏ الفطرة خمسٌ، أو خمسٌ من الفطرة‏:‏ الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقصّ الشّارب»‏.‏ ولما روي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ عشرٌ من الفطرة‏:‏ قصّ الشّارب، وإعفاء اللّحية، والسّواك، والاستنشاق، وقصّ الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء» - قال زكريّا - ‏(‏الرّاوي‏)‏‏:‏ ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة‏.‏

ما يتحقّق به الاستحداد

6 - اختلف الفقهاء فيما يتحقّق به الاستحداد على أقوالٍ‏.‏ فقال الحنفيّة‏:‏ السّنّة الحلق للرّجل، والنّتف للمرأة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ الحلق للرّجل والمرأة، ويكره النّتف للمرأة؛ لأنّه يعدّ من التّنمّص المنهيّ عنه، وهذا رأي بعض الشّافعيّة‏.‏ وقال جمهور الشّافعيّة‏:‏ النّتف للمرأة الشّابّة، والحلق للعجوز‏.‏ ونسب هذا الرّأي إلى ابن العربيّ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لا بأس بالإزالة بأيّ شيءٍ، والحلق أفضل‏.‏

وقت الاستحداد

7 - يكره تركه بعد الأربعين، كما أخرجه مسلمٌ من حديث أنسٍ‏:‏ «وقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألاّ يترك أكثر من أربعين يوماً»‏.‏ والضّابط في ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان والأماكن، بشرط ألاّ يتجاوز الأربعين يوماً، وهو التّوقيت الّذي جاء في الحديث الصّحيح‏.‏

الاستعانة بالآخرين في الاستحداد

8 - الأصل عند الفقهاء جميعاً أنّه يحرم على الإنسان ذكراً كان أو أنثى أن يظهر عورته لأجنبيٍّ إلاّ لضرورةٍ‏.‏ ويرجع إلى تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏استتارٌ، وعورةٌ‏)‏‏.‏ واعتبر الفقهاء حلق العانة لمن لا يستطيع أن يحلقها بالحديدة أو يزيلها بالنّورة ضرورةً‏.‏

آداب الاستحداد

9 - تكلّم الفقهاء على آداب الاستحداد في ثنايا الكلام على الاستحداد، وخصال الفطرة، والعورة‏.‏ فقالوا‏:‏ يستحبّ أن يبدأ في حلق العانة من تحت السّرّة، كما يستحبّ أن يحلق الجانب الأيمن، ثمّ الأيسر، كما يستحبّ أن يستتر، وألاّ يلقي الشّعر في الحمّام أو الماء، وأن يواري ما يزيله من شعرٍ وظفرٍ‏.‏

مواراة الشّعر المزال أو إتلافه

10 - صرّح الفقهاء باستحباب مواراة شعر العانة بدفنه؛ لما روى الخلاّل بإسناده عن ممل بنت مشرّحٍ الأشعريّة قالت‏:‏ «رأيت أبي يقلّم أظافره، ويدفنها ويقول‏:‏ رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك»‏.‏ وسئل أحمد، يأخذ الرّجل من شعره وأظافره أيلقيه أم يدفنه ‏؟‏ قال‏:‏ يدفنه، قيل‏:‏ بلغك في ذلك شيءٌ ‏؟‏ قال‏:‏ كان ابن عمر يدفنه‏.‏ وروي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشّعر والأظافر»، قال الحافظ ابن حجرٍ‏:‏ وقد استحبّ أصحابنا دفنها؛ لكونها أجزاءٍ من الآدميّ، ونقل ذلك عن ابن عمر وهو متّفقٌ عليه بين المذاهب‏.‏

استحسانٌ

التّعريف

1 - الاستحسان في اللّغة‏:‏ هو عدّ الشّيء حسناً، وضدّه الاستقباح‏.‏ وفي علم أصول الفقه عرّفه بعض الحنفيّة بأنّه‏:‏ اسمٌ لدليلٍ يقابل القياس الجليّ يكون بالنّصّ أو الإجماع أو الضّرورة أو القياس الخفيّ‏.‏ كما يطلق عند الحنفيّة - في كتاب الكراهية والاستحسان - على استخراج المسائل الحسان، فهو استفعالٌ بمعنى إفعالٍ، كاستخراجٍ بمعنى إخراجٍ‏.‏ قال النّجم النّسفيّ‏:‏ فكأنّ الاستحسان هاهنا إحسان المسائل، وإتقان الدّلائل‏.‏

حجّيّة الاستحسان عند الأصوليّين

2 - اختلف الأصوليّون في قبول الاستحسان، فقبله الحنفيّة، وردّه الشّافعيّة وجمهور الأصوليّين‏.‏ أمّا المالكيّة فقد نسب إمام الحرمين القول به إلى مالكٍ، وقال بعضهم‏:‏ الّذي يظهر من مذهب مالكٍ القول بالاستحسان لا على ما سبق، بل حاصله‏:‏ استعمال مصلحةٍ جزئيّةٍ في مقابلة قياسٍ كلّيٍّ، فهو يقدّم الاستدلال المرسل على القياس‏.‏ وأمّا الحنابلة فقد حكي عنهم القول به أيضاً‏.‏ والتّحقيق أنّ الخلاف لفظيٌّ؛ لأنّ الاستحسان إن كان هو القول بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه من غير دليلٍ فهو باطلٌ، ولا يقول به أحدٌ، وإن كان هو العدول عن دليلٍ إلى دليلٍ أقوى منه، فهذا ممّا لا ينكره أحدٌ‏.‏

أقسام الاستحسان

ينقسم الاستحسان بحسب تنوّع الدّليل الّذي يثبت به إلى أربعة أنواعٍ‏:‏

أوّلاً - استحسان الأثر أو السّنّة‏:‏

3 - وهو أن يرد في السّنّة النّبويّة حكمٌ لمسألةٍ ما مخالفٌ للقاعدة المعروفة في الشّرع في أمثالها؛ لحكمةٍ يراعيها الشّارع، كبيع السّلم، جوّزته السّنّة نظراً للحاجة، على خلاف الأصل في بيع ما ليس عند الإنسان وهو المنع‏.‏

ثانياً - استحسان الإجماع‏:‏

4 - وهو أن ينعقد الإجماع في أمرٍ على خلاف مقتضى القاعدة، كما في صحّة عقد الاستصناع، فهو في الأصل أيضاً بيع معدومٍ لا يجوز، وإنّما جوّز بالإجماع استحساناً للحاجة العامّة إليه‏.‏

ثالثاً - استحسان الضّرورة‏:‏

5 - وهو أن يخالف المجتهد حكم القاعدة نظراً إلى ضرورةٍ موجبةٍ من جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ، وذلك عندما يكون اطّراد الحكم القياسيّ مؤدّياً إلى حرجٍ في بعض المسائل، كتطهير الآبار والحياض؛ لأنّ القياس ألاّ تطهر إلاّ بجريان الماء عليها، وفيه حرجٌ شديدٌ‏.‏

رابعاً - الاستحسان القياسيّ‏:‏

6 - وهو أن يعدل عن حكم القياس الظّاهر المتبادر إلى حكمٍ مخالفٍ بقياسٍ آخر هو أدقّ وأخفى من القياس الأوّل، لكنّه أقوى حجّةً وأسدّ نظراً‏.‏ فهو على الحقيقة قياسٌ سمّي استحساناً أي قياساً مستحسناً للفرق بينهما‏.‏ وذلك كالحكم على سؤر سباع الطّير، فالقياس نجاسة سؤرها قياساً على نجاسة سؤر سباع البهائم كالأسد والنّمر؛ لأنّ السّؤر معتبرٌ باللّحم، ولحمها نجسٌ‏.‏ والاستحسان طهارة سؤرها قياساً على طهارة سؤر الآدميّ، فإنّ ما يتّصل بالماء من كلٍّ منهما طاهرٌ‏.‏ وإنّما رجح القياس الثّاني لضعف المؤثّر في الحكم في القياس الأوّل، وهو مخالطة اللّعاب النّجس للماء في سؤر سباع البهائم، فإنّه منتفٍ في سباع الطّير إذ تشرب بمنقارها، وهو عظمٌ طاهرٌ جافٌّ لا لعاب فيه، فانتفت علّة النّجاسة فكان سؤرها طاهراً كسؤر الآدميّ، لكنّه مكروهٌ؛ لأنّها لا تحترز عن الميتة فكانت كالدّجاجة المخلاة‏.‏ ولبيان أقسام الاستحسان الأخرى من حيث قوّته وترجيحه على القياس وبقيّة مباحثه ينظر الملحق الأصوليّ‏.‏

استحقاقٌ

التعريف

1 - الاستحقاق لغةً‏:‏ إمّا ثبوت الحقّ ووجوبه، ومنه قوله تعالى‏:‏ «فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً» أي‏:‏ وجبت عليهما عقوبةٌ، وإمّا بمعنى طلب الحقّ‏.‏ واصطلاحاً عرّفه الحنفيّة بأنّه‏:‏ ظهور كون الشّيء حقّاً واجباً للغير‏.‏ وعرّفه ابن عرفة من المالكيّة بأنّه‏:‏ رفع ملك شيءٍ بثبوت ملكٍ قبله بغير عوضٍ‏.‏ والشّافعيّة، والحنابلة يستعملونه بالمعنى اللّغويّ‏.‏ ولم نقف للشّافعيّة والحنابلة على تعريفٍ للاستحقاق، ولكن باستقراء كلامهم وجد أنّهم يستعملونه بالمعنى الاصطلاحيّ، ولا يخرجون فيه عن الاستعمال اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّملّك‏:‏

2 - التّملّك ثبوت ملكيّةٍ جديدةٍ، إمّا بانتقالها من مالكٍ إلى مالكٍ جديدٍ، أو بالاستيلاء على مباحٍ، والاستحقاق إخراج المستحقّ من غير المالك إلى المالك، فالاستحقاق يختلف عن التّملّك؛ لأنّ التّملّك يحتاج إلى إذن المالك ورضاه، أو حكم حاكمٍ في خروج الملكيّة، بخلاف الاستحقاق فإنّ المستحقّ يعود لمالكه ولو دون رضا المستحقّ منه‏.‏

حكم الاستحقاق

3 - الأصل في الاستحقاق ‏(‏بمعنى الطّلب‏)‏ الجواز، وقد يصير واجباً إذا تيسّرت أسبابه وترتّب على عدم القيام به الوقوع في الحرام، نصّ عليه المالكيّة، وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك‏.‏

إثبات الاستحقاق

4 - يثبت الاستحقاق بالبيّنة عند عامّة الفقهاء، والبيّنة تختلف من حقٍّ لآخر، ومنها ما هو مختلفٌ فيه بين المذاهب في الحقّ الواحد‏.‏ كذلك يثبت بإقرار المشتري للمستحقّ، أو بنكوله عن يمين نفي العلم بالاستحقاق‏.‏ هذا في الجملة، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في البيّنات‏.‏

ما يظهر به الاستحقاق

5 - ذكر المالكيّة أنّ سبب الاستحقاق ‏(‏بمعنى ثبوت الحقّ‏)‏ قيام البيّنة على عين الشّيء المستحقّ أنّه ملكٌ للمدّعي، لا يعلمون خروجه، ولا خروج شيءٍ منه عن ملكه حتّى الآن، وبقيّة الفقهاء لا يخالفون في ذلك، فالبيّنة سبب إظهار الواجب لغير حائزه، ولا بدّ من إقامتها حتّى يظهر الاستحقاق؛ لأنّ الثّبوت كان بسببٍ سابقٍ على الشّهادة‏.‏ وأمّا سبب ادّعاء العين المستحقّة فهو سبب تملّك العين المدّعاة من إرثٍ، أو شراءٍ، أو وصيّةٍ، أو وقفٍ، أو هبةٍ إلى غير ذلك من أسباب الملكيّة‏.‏ وهل يشترط في دعوى الاستحقاق بيان سببه وشروطه في كلّ الدّعاوى ‏؟‏ أم في بعضها كالمال والنّكاح ونحو ذلك ‏؟‏ للفقهاء خلافٌ وتفصيلٌ‏.‏ موضع استيفائه مصطلح ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏

موانع الاستحقاق

6 - موانع الاستحقاق، كما صرّح بها المالكيّة نوعان‏:‏ فعلٌ، وسكوتٌ‏.‏ فالفعل‏:‏ مثل أن يشتري ما ادّعاه من عند حائزه من غير بيّنةٍ - يشهدها سرّاً - قبل الشّراء بأنّي إنّما اشتريته خوف أن يغيب عليّ، فإذا أثبته رجعت عليه بالثّمن‏.‏ ولو اشتراه وهو يرى أن لا بيّنة له، ثمّ وجد بيّنةً، فله المطالبة‏.‏ وأمّا السّكوت‏:‏ فمثل أن يترك المطالبة من غير مانعٍ أمد الحيازة‏.‏ وبقيّة الفقهاء لم يصرّحوا بذكر موانع الاستحقاق إلاّ أنّ قواعدهم لا تأبى المانع الأوّل‏.‏ وهو الفعل، أمّا السّكوت مدّة أمد الحيازة وكونه يبطل الاستحقاق، فلم نقف على من صرّح به غيرهم سوى الحنفيّة، على تفصيلٍ عندهم في مدّته، وفي الحقوق الّتي تسقط به والّتي لا تسقط، ويتعرّضون لذلك في باب الدّعوى‏.‏

شروط الحكم بالاستحقاق

7 - عدّد المالكيّة للحكم بالاستحقاق ثلاثة شروطٍ، شاركهم بعض الفقهاء في اثنين منها‏:‏ الشّرط الأوّل‏:‏ الإعذار إلى الحائز لقطع حجّته، فإن ادّعى الحائز ما يدفع به الدّعوى أجّله القاضي بحسب ما يراه للإثبات‏.‏ وقد صرّح الحنفيّة والمالكيّة بهذا الشّرط، وأشار إليه غيرهم في البيّنات‏.‏ الشّرط الثّاني‏:‏ يمين الاستبراء ‏(‏وتسمّى أيضاً يمين الاستظهار‏)‏، وللمالكيّة في لزومها ثلاثة آراءٍ أشهرها‏:‏ أنّه لا بدّ منها في جميع الأشياء، قاله ابن القاسم وابن وهبٍ وابن سحنونٍ، وهو قول أبي يوسف، والمفتى به عند الحنفيّة‏.‏ وكيفيّة الحلف كما في الحطّاب وجامع الفصولين وغيرهما‏:‏ أن يحلف المستحقّ باللّه أنّه ما باعه، ولا وهبه، ولا فوّته، ولا خرج عن ملكه بوجهٍ من الوجوه حتّى الآن‏.‏ والشّرط الثّالث الّذي تفرّد المالكيّة بالقول به هو‏:‏ الشّهادة على العين المستحقّة إن أمكن، وهو في المنقول، وإلاّ فعلى الحيازة، وهو في العقار، وكيفيّتها أن يبعث القاضي عدلين، وقيل‏:‏ أو عدلاً مع الشّهود الّذين شهدوا بالملكيّة، فإن كانت داراً قالوا لهما مثلاً‏:‏ هذه الدّار هي الّتي شهدنا فيها عند القاضي الشّهادة المقيّدة أعلاه‏.‏

الاستحقاق في البيع علم المشتري باستحقاق المبيع

8 - يحرم شراء الشّيء المستحقّ عند العلم بالاستحقاق، فإن حصل البيع مع علم المشتري بالاستحقاق، فللمشتري الرّجوع بالثّمن على البائع عند الاستحقاق إذا ثبت بالبيّنة، فإن ثبت بإقرار المشتري أو نكوله عن اليمين بالاستحقاق، فإنّه لا يرجع عند جمهور الفقهاء، وهو خلاف المشهور عند المالكيّة‏.‏ والمشهور عند المالكيّة أنّه يرجع‏.‏ وفي هذه المسألة تفصيلٌ يرد فيما يأتي‏.‏

استحقاق المبيع كلّه

9 - إذا استحقّ المبيع كلّه فذهب الشّافعيّة، والحنابلة إلى أنّ البيع يبطل، وهو قول الحنفيّة إن كان الاستحقاق مبطلاً للملك، وهو الاستحقاق الّذي يرد على محلٍّ لا يقبل التّملّك‏.‏ وهو المفهوم من فروع مذهب المالكيّة‏.‏ فإن كان الاستحقاق ناقلاً للملكيّة - وهو الّذي يرد على محلٍّ قابلٍ للتّملّك - كان العقد موقوفاً على إجازة المستحقّ، فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه انفسخ، وهذا عند الحنفيّة، ولهم في وقت الانفساخ بالاستحقاق ثلاثة أقوالٍ، الصّحيح منها‏:‏ أنّه لا ينفسخ العقد ما لم يرجع المشتري على البائع بالثّمن، وقيل‏:‏ ينفسخ بنفس القضاء، وقيل‏:‏ إذا قبضه المستحقّ‏.‏

الرّجوع بالثّمن

10 - عند الفسخ يختلف الفقهاء في رجوع المشتري بالثّمن على البائع وعدمه إذا بطل البيع بالاستحقاق، ولهم في ذلك رأيان‏:‏ الأوّل‏:‏ أنّ المشتري يرجع بالثّمن على البائع مطلقاً، سواءٌ أثبت الاستحقاق بالبيّنة أم بالإقرار أم بالنّكول، وهو قول الحنابلة، وهو أيضاً قول الحنفيّة، والشّافعيّة إن ثبت الاستحقاق بالبيّنة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن لم يعلم المشتري بصحّة ملك البائع ولا عدمه يرجع‏.‏ وكذلك إن علم عدم ملك البائع على المشهور نظراً لسبق ظلم البائع، لبيعه ما ليس في ملكه، فهو أحقّ بالحمل عليه‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّ المشتري لا يرجع على البائع إن أقرّ المشتري باستحقاق المبيع، أو نكل عن اليمين، وهو قول الحنفيّة، والشّافعيّة، وقد علّل الشّافعيّة ذلك بتقصير المشتري باعترافه بالاستحقاق مع الشّراء، أو بنكوله‏.‏ وهو قول ابن القاسم من المالكيّة، إن أقرّ المشتري أنّ جميع المبيع للبائع، وقال أشهب وغيره‏:‏ لا يمنع إقراره من الرّجوع‏.‏

استحقاق بعض المبيع

11 - يختلف الفقهاء كذلك إن حصل الاستحقاق في البعض دون الكلّ حسب الأقوال التّالية‏:‏

أ - بطلان البيع في الجميع سواءٌ أكان المبيع قيميّاً أم مثليّاً، وهو روايةٌ عند الحنابلة، وقولٌ للشّافعيّة، واقتصر عليه الشّافعيّ في الأمّ؛ لأنّ الصّفقة جمعت شيئين‏:‏ حراماً وهو المستحقّ، وحلالاً وهو الباقي، فبطل بيع الجميع وهو أيضاً قول المالكيّة إن استحقّ الأكثر‏.‏

ب - تخيير المشتري بين ردّ المبيع بالفسخ، وبين التّمسّك بالباقي والرّجوع بحصّة القدر المستحقّ والثّمن‏.‏ وهو الرّواية الثّانية للحنابلة‏.‏ والتّخيير أيضاً هو قول الحنفيّة لو استحقّ المبيع قبل قبضه، سواءٌ أورث الاستحقاق في الباقي عيباً أم لا؛ لتفرّق الصّفقة قبل التّمام، وكذا لو استحقّ‏:‏ البعض بعد القبض وأورث في الباقي عيباً‏.‏

ج - بطلان البيع في القدر المستحقّ وصحّته في الباقي، وهو القول الآخر للشّافعيّة، وهو أيضاً قول الحنفيّة إن استحقّ البعض بعد قبض الكلّ، ولم يحدث الاستحقاق عيباً في الباقي، كثوبين استحقّ أحدهما، أو كيليٍّ أو وزنيٍّ استحقّ بعضه، وكذا كلّ ما لا يضرّ تبعيضه‏.‏ وأمّا المالكيّة فقد فرّقوا بين الاستحقاق في الشّائع وغيره، وكون المستحقّ الثّلث أو أقلّ من الثّلث‏.‏ قال البنانيّ‏:‏ حاصل استحقاق البعض أن تقول‏:‏ لا يخلو إمّا أن يكون شائعاً أو معيّناً فإن كان شائعاً ممّا لا ينقسم، وليس من رباع الغلّة - أي العقارات المستغلّة - خيّر المشتري في التّمسّك والرّجوع بحصّة المستحقّ من الثّمن، وفي ردّه لضرر الشّركة، سواءٌ استحقّ الأقلّ أو الأكثر‏.‏ وإن كان ممّا ينقسم، أو كان متّخذاً لغلّةٍ خيّر في استحقاق الثّلث، ووجب التّمسّك فيما دون الثّلث‏.‏ وإن استحقّ جزءٌ معيّنٌ، فإن كان مقوّماً كالعروض والحيوان رجع بحصّة البعض المستحقّ بالقيمة لا بالتّسمية‏.‏ وإن استحقّ وجه الصّفقة تعيّن ردّ الباقي، ولا يجوز التّمسّك بالأقلّ‏.‏ وإن كان الجزء المعيّن مثليّاً، فإن استحقّ الأقلّ رجع بحصّته من الثّمن، وإن استحقّ الأكثر خيّر في التّمسّك والرّجوع بحصّته من الثّمن، وفي الرّدّ‏.‏

12 - وكيفيّة الرّجوع هي‏:‏ أن ينظر لقيمة المبيع كلّه يوم استحقاقه، فيرجع المشتري على البائع بما يخصّه من الثّمن بميزان القيمة‏.‏ مثلاً إذا قيل‏:‏ قيمة المبيع كلّه ‏(‏1000‏)‏ وقيمة المستحقّ ‏(‏200‏)‏ وقيمة الباقي ‏(‏800‏)‏ فيكون الرّجوع عليه بخمس الثّمن‏.‏

استحقاق الثّمن

13 - أكثر الفقهاء - خلافاً لروايةٍ ضعيفةٍ عند الحنابلة - على بطلان البيع إن استحقّ الثّمن المعيّن‏.‏ قال الحنفيّة، والمالكيّة‏:‏ يرجع البائع بعين المبيع إن كان قائماً، وبقيمته إن كان تالفاً، ولا يرجع بقيمة المستحقّ‏.‏ غير أنّ بعض الشّافعيّة قيّد التّعيين بكونه في العقد لا بعده‏.‏ فإن كان الثّمن غير معيّنٍ فلا يفسد العقد باستحقاقه، ويرجع بقيمته إن كان مقوّماً، وبمثله إن كان مثليّاً، مع ملاحظة خلاف الفقهاء فيما يتعيّن بالتّعيين وما لا يتعيّن به‏.‏

زيادة المبيع المستحق

14 - زيادة المبيع المستحقّ محلّ خلافٍ وتفصيلٍ بين الفقهاء على النّحو التّالي‏:‏ ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا كانت الزّيادة منفصلةً متولّدةً - كالولد والثّمر - وثبت الاستحقاق بالبيّنة فهي للمستحقّ‏.‏ واختلف هل يجب القضاء بالزّيادة مقصوداً أو يكتفى بالقضاء بالأصل ‏؟‏ على رأيين‏.‏ أمّا إذا كانت الزّيادة متّصلةً غير متولّدةٍ - كالبناء والغرس - واستحقّ الأصل، فإنّه يخيّر المستحقّ بين أخذ الزّيادة بقيمتها مقلوعةً، وبين أمر المأخوذ منه بقلعها مع تضمينه نقصان الأرض‏.‏ ولهذا الأخير الرّجوع على البائع بالثّمن‏.‏ وإذا كانت الزّيادة متّصلةً متولّدةً كالسّمن فاستحقّ الأصل فهي للمستحقّ، وجاء في الحامديّة أنّ المأخوذ منه يرجع على بائعه بما زاد، بأن تقوّم قبل الزّيادة وبعدها ويرجع بالفرق ‏(‏ولا يرجع المشتري على البائع بما أنفق‏)‏‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ غلّة المستحقّ من أجرةٍ أو استعمالٍ، أو لبنٍ، أو صوفٍ، أو ثمرةٍ هي للمستحقّ منه من يوم وضع يده إلى يوم الحكم‏.‏ وهذا في غير الغصب، فإن كان المستحقّ مغصوباً والمشتري من الغاصب يجهل ذلك، فالزّيادة للمستحقّ‏.‏ والحنابلة كالحنفيّة في أنّ الزّيادة للمستحقّ، سواءٌ أكانت متّصلةً أم منفصلةً، فإن أحدث فيها شيئاً كأن أتلفها أو أكل الثّمرة أخذت منه القيمة، وإن تلفت بغير فعل المستحقّ منه فإنّه لا يغرم شيئاً، فإن ردّت الزّيادة على المستحقّ، فالمأخوذ منه يردّ له النّفقة أو قيمة الغراس، إن كان قد غرس أو زرع، والعبرة في القيمة بيوم الاستحقاق، وذكر القاضي أبو يعلى أنّ الّذي يدفع النّفقة هو المالك ‏(‏المستحقّ‏)‏، ويرجع بها على من غرّ المأخوذ منه‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الزّيادة للمأخوذ منه، وقيّدوا ذلك بما إذا أخذت العين المستحقّة ببيّنةٍ مطلقةٍ لم تصرّح بتاريخ الملك، ولا يرجع بالنّفقة عندهم، لأنّه بيعٌ فاسدٌ‏.‏ وفصّل المالكيّة في ذلك فقالوا‏:‏ إنّ الغلّة للمستحقّ مطلقاً إلاّ كانت غير ثمرةٍ، أو ثمرةً غير مؤبّرةٍ، ‏(‏وفي المدوّنة‏:‏ إن يبست، وفي رواية ابن القاسم‏:‏ إن جذّت‏)‏‏.‏ واختلفوا في رجوع المستحقّ منه بما سقى وعالج إن كان فيه سقيٌ وعلاجٌ، وكانت الثّمرة لم تؤبّر - كاختلافهم في الرّجوع في الرّدّ بالعيب على رأيين‏.‏

استحقاق الأرض المشتراة

15 - إذا كانت الزّيادة غرساً أو بناءً، كما لو اشترى أرضاً فبنى فيها أو غرس، فأكثر الفقهاء ‏(‏الحنفيّة، والحنابلة، وظاهر الشّافعيّة‏)‏ على أنّ للمستحقّ قلع الزّرع والبناء‏.‏ وصرّح الحنابلة، وهو ظاهر الشّافعيّة بأنّ المشتري يرجع على البائع بما غرم من ثمنٍ أقبضه، وأجرة الباني، وثمن مؤنٍ مستهلكةٍ، وأرش نقصٍ بقلعٍ ونحو ذلك؛ لأنّ البائع غرّ المشتري ببيعه إيّاها، وأوهمه أنّها ملكه، وكان سبباً في غراسه وبنائه وانتفاعه فرجع عليه بما غرمه، قال الحنابلة‏:‏ والقيمة تعتبر بيوم الاستحقاق‏.‏ أمّا عند الحنفيّة فيرجع بالثّمن، ولا يرجع بقيمة الشّجرة، ولا بما ضمن من نقصان الأرض، هذا إن استحقّت قبل ظهور الثّمر، فإن كان الاستحقاق بعد ظهور الثّمر - بلغ الجذاذ أو لم يبلغ - كان للمستحقّ قلع الشّجر أيضاً، فإن كان بائع الأرض حاضراً كان للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الشّجر نابتاً في الأرض، ويسلّم الشّجر قائماً إلى البائع، ولا يرجع على البائع بقيمة الثّمر، ويجبر المشتري على قطع الثّمر بلغ أو لم يبلغ‏.‏ ويجبر البائع على قلع الشّجر، وإن اختار المستحقّ أن يدفع إلى المشتري قيمة الشّجر مقلوعاً ويمسك الشّجر، وأعطاه القيمة ثمّ ظفر المشتري بالبائع، فإنّه يرجع على البائع بالثّمن، ولا يرجع بقيمة الشّجر، ولا يكون للمستحقّ أن يرجع على البائع ولا على المشتري بنقصانٍ‏.‏ وأمّا المالكيّة فليس للمستحقّ عندهم قلع البناء والغرس والزّرع، وقال الدّردير من المالكيّة‏:‏ إن غرس ذو الشّبهة أو بنى، وطالبه المستحقّ، قيل للمالك‏:‏ أعطه قيمته قائماً منفرداً عن الأرض، فإن أبى المالك فللغارس أو الباني دفع قيمة الأرض بغير غرسٍ وبناءٍ، فإن أبى فهما شريكان بالقيمة، هذا بقيمة أرضه، وهذا بقيمة غرسه أو بنائه، ويعتبر التّقويم يوم الحكم لا يوم الغرس والبناء‏.‏ ويستثنى من ذلك الأرض الموقوفة، وتفصيله في موطنه‏.‏ وقد صرّح المالكيّة بأنّ للمستحقّ كراء تلك السّنة، إن كانت تزرع مرّةً واحدةً في السّنة، وكان الاستحقاق قبل فوات وقت ما تراد تلك الأرض لزراعته، فلو استحقّت بعد فوات إبّان الزّرع فلا شيء لمستحقّها؛ لأنّ الزّارع قد استوفى المنفعة، والغلّة له‏.‏ وغرس المكتري، والموهوب له، والمستعير، كغرس المشتري عند المالكيّة والحنابلة في امتناع القلع‏.‏ وهذا كلّه إذا كان هناك شبهةٌ، كأن لم يعلم أنّها ليست للبائع، أو المؤجّر ونحوهما‏.‏ وقد نقل ابن رجبٍ مثل هذا في قواعده عن أحمد، وقال‏:‏ لم يصحّ عن أحمد غيره‏.‏

الاستحقاق في الصّرف

16 - إذا استحقّ العوضان في الصّرف ‏(‏بيع النّقد بالنّقد‏)‏ أو أحدهما، فللفقهاء في بطلانه وعدمه ثلاثة آراءٍ‏:‏

أ - بطلان العقد وهو قول الشّافعيّة، والمذهب عند الحنابلة، وهو قول المالكيّة أيضاً في المصوغ مطلقاً، سواءٌ أكان قبل التّفرّق وطول المجلس أم بعده؛ لأنّ المصوغ يراد لعينه فغيره لا يقوم مقامه، وفي المسكوكين، أو المسكوك والمصوغ إن استحقّ المسكوك بعد افتراق المتصارفين، أو قبل أن يفترقا ولكن بعد طول المجلس طولاً لا يصحّ معه الصّرف، ومع البطلان لا يجوز البدل، ويعني بالمسكوك ما قابل المصوغ، فيشمل التّبر والمصوغ المكسور‏.‏

ب - صحّة العقد وهو مذهب الحنفيّة، وروايةٌ عن أحمد، وهو قول المالكيّة أيضاً في المسكوك إن كان الاستحقاق قبل التّفرّق وطول المجلس‏.‏ وللعاقد إعطاء بدل المستحقّ، وهل الإبدال على سبيل التّراضي أو الإجبار ‏؟‏ لم أجد من صرّح بالإجبار إلاّ متأخّري المالكيّة في طريقةٍ من طريقتين لهم، والأخرى بالتّراضي‏.‏

ج - البطلان في الدّراهم المعيّنة، وعدمه في غيرها قبل التّفرّق وطول المجلس، وهو قول أشهب من المالكيّة‏.‏

استحقاق المرهون

17 - إن استحقّ المرهون المعيّن كلّه بطل الرّهن اتّفاقاً، وإن استحقّ المرهون المعيّن قبل القبض خيّر المرتهن بين فسخ عقد المداينة من بيعٍ ونحوه، وبين إمضائه مع إبقاء الدّين بلا رهنٍ، وكذلك يخيّر المرتهن إن كان الاستحقاق بعد القبض وغرّه‏.‏ الرّاهن، فإن لم يغرّه بقي الدّين بلا رهنٍ، وإن كان المرهون غير معيّنٍ واستحقّ بعد قبضه أجبر الرّاهن على الإتيان برهنٍ بدله على القول الرّاجح، ولا يتصوّر استحقاق غير المعيّن قبل قبضه‏.‏

18 - لو استحقّ بعض المرهون ففي بطلان الرّهن وبقائه ثلاثة آراءٍ‏:‏

أ - صحّة الرّهن، والباقي من المرهون رهن جميع الدّين، وهو قول المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة‏.‏

ب - بطلان الرّهن، وهو قول الحنفيّة، إن كان الباقي ممّا لا يجوز رهنه ابتداءً عندهم، كأن كان مشاعاً‏.‏

ج - بطلان الرّهن بحصّته، والباقي من المرهون رهنٌ بحصّته من الدّين، وهو قول ابن شعبان من المالكيّة، وهو قول الحنفيّة إن كان الباقي ممّا يجوز رهنه ابتداءً‏.‏

تلف المرهون المستحقّ في يد المرتهن

19 - لو تلفت العين المرهونة في يد المرتهن، ثمّ استحقّت، فللعلماء فيمن يضمن العين التّالفة المرهونة ثلاثة آراءٍ‏:‏

أ - للمستحقّ تضمين الرّاهن أو المرتهن؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما متعدٍّ، أمّا الرّاهن فإنّه متعدٍّ بالتّسليم، وأمّا المرتهن فإنّه متعدٍّ بالقبض، واستقرار الضّمان على الرّاهن فلا يرجع على غيره لو ضمن، فإن ضمن المرتهن رجع على الرّاهن بما ضمن وبدينه، وهو قول الحنفيّة، والشّافعيّة، إلاّ أنّ الشّافعيّة اشترطوا أن يكون المرتهن جاهلاً، فإن كان عالماً فالقرار عليهما‏.‏

ب - للمستحقّ تضمين الرّاهن أو المرتهن واستقرار الضّمان على المرتهن، فإن ضمن لم يرجع على أحدٍ، وهو قول الحنابلة إن علم المرتهن بالغصب، وإن ضمن الرّاهن رجع على المرتهن، فإن لم يعلم بالغصب حتّى تلف بتفريطٍ فالحكم كذلك؛ لأنّ الضّمان يستقرّ عليه، فإن تلف بغير تفريطٍ ففيه ثلاثة أوجهٍ‏:‏ أحدها‏:‏ يضمن المرتهن ويستقرّ الضّمان عليه؛ لأنّ مال غيره تلف تحت يده العادية‏.‏ والثّاني‏:‏ لا ضمان عليه لأنّه قبضه على أنّه أمانةٌ من غير علمه، فلم يضمنه كالوديعة، فعلى هذا يرجع المالك على الغاصب لا غيره‏.‏ والثّالث‏:‏ أنّ للمالك تضمين أيّهما شاء، ويستقرّ الضّمان على الغاصب، فإن ضمن الغاصب لم يرجع على أحدٍ، وإن ضمن المرتهن رجع على الغاصب لأنّه غرّه فرجع عليه‏.‏

ج - للمستحقّ تضمين المرتهن إن حدث التّلف قبل ظهور الاستحقاق، فإن حصل الاستحقاق وتركها المستحقّ تحت يد المرتهن بلا عذرٍ فلا يضمن، لأنّ المرهون خرج عن الرّهنيّة بالاستحقاق وصار المرتهن أميناً فلا يضمن، وهذا ما صرّح به المالكيّة‏.‏

استحقاق المرهون بعد بيع العدل له

20 - إذا وضع المرهون بيد عدلٍ، وباعه العدل برضا الرّاهن والمرتهن، وأوفى المرتهن الثّمن، ثمّ استحقّ المرهون المبيع، فللفقهاء فيمن يرجع وعلى من يرجع آراءٌ‏:‏

أ - رجوع المستحقّ على العدل أو الرّاهن، وهو قول الحنفيّة إن كان المبيع هالكاً، فإن ضمن الرّاهن قيمته صحّ البيع والقبض؛ لأنّه ملكه بأداء الضّمان فتبيّن أنّه باع ملك نفسه، وإن ضمن العدل كان العدل بالخيار إن شاء رجع على الرّاهن بالقيمة؛ لأنّه وكيلٌ من جهته عاملٌ له، فيرجع عليه بما لحقه من العهدة، ونفذ البيع وصحّ اقتضاء المرتهن لدينه، وإن شاء العدل رجع على المرتهن؛ لأنّه تبيّن أنّه أخذ الثّمن بغير حقٍّ، وإذا رجع بطل اقتضاء المرتهن دينه منه، فيرجع على الرّاهن بدينه‏.‏ فإن كان المبيع قائماً أخذه المستحقّ من المشتري؛ لأنّه وجد عين ماله، ثمّ يرجع المشتري على العدل بالثّمن، لأنّه العاقد، فتتعلّق به حقوق العقد لصيرورته وكيلاً بعد الإذن بالبيع، وهذا من حقوقه حيث وجب له بالبيع، وإنّما أدّاه ليسلم له المبيع ولم يسلم‏.‏ ثمّ العدل بالخيار إن شاء رجع على الرّاهن بالقيمة؛ لأنّه هو الّذي أدخله في هذه العهدة فيجب عليه تخليصه، وإذا رجع عليه صحّ قبض المرتهن؛ لأنّ المقبوض سلم له، وإن شاء رجع على المرتهن؛ لأنّه إذا انتقض العقد بطل الثّمن، وقد قبض ثمناً فيجب نقض قبضه ضرورةً، وإذا رجع عليه عاد حقّ المرتهن كما كان فيرجع به على الرّاهن‏.‏

ب - رجوع المشتري على الرّاهن؛ لأنّ المبيع له، فالعهدة عليه، ولا يرجع على العدل إن علم أنّه وكيلٌ، فإن لم يعلم بالمال رجع عليه، وهو مذهب الحنابلة‏.‏

ج - رجوع المستحقّ على المرتهن بالثّمن وإجازة البيع، ويرجع المرتهن على الرّاهن، وهو قولٌ للمالكيّة، وقال ابن القاسم، يرجع على الرّاهن إلاّ أن يكون مفلساً فيرجع على المرتهن، ورأى المالكيّة هذا عند تسليم السّلطان الثّمن للمرتهن، إذ لم يظهر نصٌّ صريحٌ لهم في ضمان العدل غير السّلطان‏.‏

د - تخيير المشتري في الرّجوع على العدل، ‏(‏ما لم يكن العدل حاكماً أو مأذوناً من قبل الحاكم‏)‏ أو الرّاهن، أو المرتهن إذا كان المرتهن قد تسلّم الثّمن، وهو قول الشّافعيّة‏.‏

استحقاق ما باعه المفلس

21 - المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة على أنّه لو استحقّ ما باعه المفلس قبل الحجر فالمشتري يشارك الغرماء من غير نقص القسمة، إن كان الثّمن تالفاً وتعذّر ردّه، وإن كان غير تالفٍ فالمشتري أولى به‏.‏ وإن استحقّ شيءٌ بعد أن باعه الحاكم قدّم المشتري بالثّمن على باقي الغرماء، صرّح بذلك الشّافعيّة والمالكيّة، وفي قولٍ عند الشّافعيّة يحاصّ الغرماء‏.‏ وهذه المسألة لا يمكن تصوّرها على قول أبي حنيفة إذ لا يرى جواز الحجر بالإفلاس، ولكن يمكن تصوّرها على قول الصّاحبين، إذ أنّهما قالا بالحجر على المفلس بشروطه، ولكن لم يتعرّض الحنفيّة لهذه المسألة بالذّات تفريعاً على قولهما فيما اطّلعنا عليه‏.‏

الاستحقاق في الصّلح

22 - يفرّق الحنفيّة والحنابلة في الصّلح بين أن يكون عن إقرارٍ، أو عن إنكارٍ، أو سكوتٍ‏.‏ فإن كان الصّلح عن إقرارٍ، فهو بمنزلة البيع عندهم، بالنّسبة لطرفي الصّلح، وقد تقدّم حكم الاستحقاق في المبيع‏.‏ أمّا إذا كان الصّلح عن إنكارٍ أو سكوتٍ، فهو في حقّ المدّعي معاوضةٌ، وفي حقّ المدّعى عليه افتداءٌ لليمين وقطعٌ للخصومة، وينبني عليه أنّه إذا استحقّ بدل الصّلح كلّه يبطل الصّلح، ويعود المدّعي إلى الخصومة، وإذا استحقّ بعضه عاد المدّعي للخصومة في ذلك البعض‏.‏ أمّا إذا استحقّ محلّ النّزاع ‏(‏المصالح عنده‏)‏ فإنّ المدّعى عليه يرجع على المدّعي بكلّ البدل أو بعضه؛ لأنّ المدّعي إنّما أخذ البدل بدون وجه حقٍّ فلصاحبه استرداده‏.‏ وعند المالكيّة إن كان الصّلح عن إقرارٍ فاستحقّ بدل الصّلح رجع المدّعي بالعين المدّعاة إن كانت قائمةً، فإن فاتت رجع بعوضها - وهو القيمة - إن كانت قيميّةً، والمثل إن كانت مثليّةً‏.‏‏.‏‏.‏ فإن كان الصّلح عن إنكارٍ واستحقّ بدل الصّلح رجع بالعوض مطلقاً، ولا يرجع بالعين ولو كانت قائمةً‏.‏ أمّا إن استحقّ المصالح عنه وهو محلّ النّزاع، فإن كان الصّلح عن إنكارٍ رجع المدّعى عليه على المدّعي بما دفع له إن كان قائماً، فإن فات رجع بقيمته إن كان قيميّاً، وبمثله إن كان مثليّاً‏.‏ وإن كان الصّلح عن إقرارٍ لا يرجع المقرّ على المدّعي بشيءٍ لاعترافه أنّه ملكه، وأنّ المستحقّ أخذه منه ظلماً‏.‏ وعند الشّافعيّة لا صلح إلاّ مع الإقرار، فإن استحقّ بدل الصّلح وكان معيّناً بطل الصّلح، سواءٌ استحقّ كلّه أو بعضه، وإن كان بدل الصّلح غير معيّنٍ، أي موصوفاً في الذّمّة أخذ المدّعي بدله، ولا ينفسخ الصّلح‏.‏

استحقاق عوض الصّلح عن دم العمد

23 - يصحّ الصّلح عن دم العمد على مالٍ، فإن استحقّ العوض فلا يبطل الصّلح، ويأخذ المستحقّ عوض المستحقّ عند الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة‏.‏ وعند الشّافعيّة يرجع إلى أرش الجناية‏.‏

ضمان الدّرك

24 - من الفقهاء من قال‏:‏ إنّ ضمان الدّرك استعمل في ضمان الاستحقاق عرفاً، وهو أن يضمن الثّمن عند استحقاق المبيع، ومنهم من جعله نوعاً من ضمان العهدة، ومنهم من قال‏:‏ إنّ ضمان الدّرك هو ضمان العهدة‏.‏ ويتّفق الفقهاء على أنّه يجوز ضمان الثّمن عند استحقاق المبيع لمسيس الحاجة إلى ذلك، في نحو غريبٍ لو خرج مبيعه أو ثمنه مستحقّاً لم يظفر به‏.‏ ولتفصيل القول في ضمان الدّرك ‏(‏ر‏:‏ ضمان الدّرك‏)‏‏.‏

الاستحقاق في الشّفعة

25 - يتّفق الفقهاء على أنّه لو استحقّ المشفوع بطلت الشّفعة، ورجع الشّفيع بالثّمن على من أخذه منه، وقرار الضّمان ‏(‏أي نهايته‏)‏ على البائع‏.‏ ويختلفون عند استحقاق الثّمن الّذي وقع عليه البيع الأوّل، ولهم في ذلك رأيان‏:‏

أ - الأوّل‏:‏ بطلان البيع والشّفعة، وهو قول الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وقول غير المقدّم عند المالكيّة إن كان الثّمن معيّناً؛ لأنّ مالكه لم يأذن فيه، ويرجع الشّفيع بمثل ما دفع، وهو قول المالكيّة إن كان الاستحقاق قبل الأخذ بالشّفعة حيث كان الثّمن غير نقدٍ‏.‏

ب - والثّاني‏:‏ صحّة الشّفعة، وهو قول المالكيّة الّذي هو المذهب إن حصل الاستحقاق بعد الأخذ بالشّفعة، ويرجع البائع بقيمة الشّفعة لا بقيمة المستحقّ، إلاّ إن كان المستحقّ نقداً مسكوكاً فيرجع بمثله‏.‏ أمّا إن كان الثّمن غير معيّنٍ فيصحّ البيع والشّفعة اتّفاقاً - كأن اشترى في الذّمّة ودفع عمّا فيها فخرج المدفوع مستحقّاً - وأبدل الثّمن بما يحلّ محلّه في الأخذ بالشّفعة عند صحّة البيع والشّفعة‏.‏ فإن استحقّ بعض الثّمن المعيّن بطل البيع فيه عند الشّافعيّة والحنابلة، وصحّ في الباقي عند الشّافعيّة، وفيه خلافٌ عند الحنابلة بناءً على روايتي تفريق الصّفقة‏.‏ وإن دفع الشّفيع بدلاً مستحقّاً لم تبطل شفعته عند الشّافعيّة والمالكيّة، زاد الشّافعيّة‏:‏ وإن علم أنّه مستحقٌّ، لأنّه لم يقصّر في الطّلب والأخذ، سواءٌ أكان بمعيّنٍ أم لا، فإن كان بمعيّنٍ احتاج إلى تملّكٍ جديدٍ‏.‏

الاستحقاق في المساقاة

26 - الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة على أنّ المساقاة تنفسخ باستحقاق الأشجار، ولا حقّ للعامل في الثّمرة حينئذٍ؛ لأنّه عمل فيها بغير إذن المالك‏.‏ وللعامل على من تعاقد معه أجرة المثل، غير أنّ الحنفيّة اشترطوا لوجوب الأجرة ظهور الثّمر، فإن لم تظهر الثّمار حتّى استحقّت الأشجار فلا أجرة، وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ الأجرة تستحقّ في حالة جهله بالاستحقاق؛ لأنّ الّذي تعاقد معه غرّه، فإن علم فلا أجرة له‏.‏ ولو خرج الثّمر في الشّجر ثمّ استحقّت الأرض، فالكلّ للمستحقّ ‏(‏الأرض والشّجر والثّمر‏)‏ ويرجع العامل على من تعاقد معه بأجر مثل عمله‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إنّ المستحقّ مخيّرٌ بين إبقاء العامل وبين فسخ عقده، فإن فسخ دفع له أجر عمله‏.‏ والحكم في ضمان تلف الأشجار والثّمار - بعد الاستحقاق - يرجع فيه إلى باب الضّمان‏.‏

الاستحقاق في الإجارة استحقاق العين المكتراة

27 - يختلف الفقهاء عند استحقاق العين المكتراة، فمنهم من يقول ببطلان الإجارة، ومنهم من يقول بتوقّفها على إجازة المستحقّ، بالأوّل قال الشّافعيّة، والحنابلة، وبالثّاني قال الحنفيّة، والمالكيّة، وهو احتمالٌ عند الحنابلة، بناءً على جواز بيع الفضوليّ وتوقّفه على إجازة المالك كذلك يختلفون فيمن يستحقّ الأجرة، ولهم في هذا ثلاثة آراءٍ‏:‏

أ - الأجرة للعاقد، وهو قول الحنفيّة إن كانت الإجازة بعد استيفاء المنفعة، ولا اعتبار للإجازة حينئذٍ، وهو قول المالكيّة إن كان الاستحقاق بعد الأمد، وهو قول الشّافعيّة إن كانت العين المكتراة غير مغصوبةٍ؛ لأنّه استحقّها بالملك ظاهراً‏.‏

ب - إنّ الأجرة للمستحقّ، وهو قول الحنابلة، وهو قول الحنفيّة إن كانت الإجازة قبل استيفاء المنفعة، وكذا إن كانت بعد استيفاء بعض المنفعة في قول أبي يوسف، وهو قول الشّافعيّة إن كانت العين المؤجّرة مغصوبةً ويجهل المستأجر الغصب‏.‏ ويرجع المالك على الغاصب أو المستأجر عند الشّافعيّة بالمنفعة الّتي استوفاها، والقرار ‏(‏أي نهاية الضّمان‏)‏ على المستأجر إن كان قد استوفى المنفعة، فإن لم يستوفها فقرار الضّمان على المؤجّر الغارّ‏.‏ ويرجع المستحقّ عليهما أيضاً عند الحنابلة والقرار على المستأجر، وفي المواهب السّنيّة أنّ الأرض الموقوفة المستحقّة إن آجرها النّاظر وأخذ الأجرة وسلّمها للمستحقّين، فإنّ المالك يرجع على المستأجر لا على النّاظر، ورجوع المستأجر على من أخذ دراهمه‏.‏

ج - أجر ما مضى للعاقد، وما بعده للمستحقّ، وهو قول المالكيّة، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة، ويتصدّق العاقد عنده بنصيبه بعد ضمان النّقص‏.‏ والمراد بما مضى عند المالكيّة ما قبل الحكم بالاستحقاق‏.‏

تلف العين المستحقّة المكتراة

28 - لو تلفت العين المؤجّرة أو نقصت ثمّ ظهر أنّها مستحقّةٌ فللمستحقّ تضمين المستأجر أو المؤجّر، والقرار على المؤجّر، هذا عند الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ والرّجوع يكون بأعلى قيمةٍ من يوم الغصب إلى يوم التّلف عند الشّافعيّة، والحنابلة؛ لأنّها مغصوبةٌ في الحال الّتي زادت فيها قيمتها، فالزّيادة لمالكها مضمونةٌ على الغاصب‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يرجع المستحقّ على المكتري إن كان متعدّياً، ولا يرجع عليه إذا لم يتعدّ وفعل ما يجوز له، فلو اكترى داراً فهدمها، ثمّ ظهر مستحقٌّ، فله أخذ النّقص إن وجده وقيمة الهدم من الهادم، أي قيمة ما أفسد الهدم من البناء‏.‏

استحقاق الأجرة

29 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأجرة لو استحقّت فإمّا أن تكون مثليّةً أو عيناً قيميّةً، فإن كانت الأجرة عيناً قيميّةً واستحقّت بطلت الإجارة، وتجب قيمة المنفعة ‏(‏أجر المثل‏)‏ لا قيمة البدل، وإن كانت الأجرة مثليّةً لم تبطل الإجارة ويجب المثل‏.‏ فلو دفع عشرة دراهم أجرةً فاستحقّت ينبغي أن تجب عشرةٌ مثلها لا قيمة المنفعة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن استحقّت الأجرة المعيّنة من يد المؤجّر، كالدّابّة ونحوها، فإن كان الاستحقاق قبل حرث الأرض المؤجّرة أو قبل زرعها، فإنّ الإجارة تنفسخ من أصلها، ويأخذ الأرض صاحبها، وإن استحقّت بعد حرث الأرض أو زرعها فإنّ الإجارة بين المؤجّر والمستأجر لا تنفسخ، وفي هذه الحالة إن أخذ المستحقّ ماله من المؤجّر، ولم يجز الإجارة، كان للمؤجّر على المستأجر أجرة المثل، وتبقى الأرض له، كما كانت أوّلاً‏.‏ وإن لم يأخذ المستحقّ ماله من المؤجّر وأبقاه له وأجاز الإجارة، فإن دفع للمستأجر أجرة حرثه كان الحقّ له في منفعة الأرض مدّة الإجارة، وإن أبى المستحقّ دفع أجرة الحرث قيل للمستأجر‏:‏ ادفع للمستحقّ أجرة الأرض، ويكون لك منفعتها، فإن دفع انتهى الأمر، وإن لم يدفع قيل له‏:‏ سلّم الأرض له مجّاناً مدّة الإجارة بلا مقابلٍ عن الحرث‏.‏ أمّا إذا كانت الأجرة شيئاً غير معيّنٍ كالنّقود والمكيل والموزون واستحقّ، فإنّ الإجارة لا تنفسخ، سواءٌ أكان الاستحقاق قبل الحرث أم بعده، وذلك لقيام عوضه مقامه‏.‏

استحقاق الأرض الّتي بها غراسٌ أو بناءٌ للمستأجر

30 - لو استحقّت الأرض المؤجّرة وقد غرس فيها المستأجر، فإنّ الفقهاء يختلفون في قلع الغراس، وفي إبقائه وتملّكه، ولهم في ذلك ثلاثة آراءٍ‏:‏

أحدها‏:‏ للمستحقّ قلع الغراس دون مقابلٍ‏.‏ وهو قول الحنفيّة فيما بعد انقضاء المدّة والشّافعيّة‏.‏ قال الشّافعيّة‏:‏ وليس للمالك تملّك الغراس بالقيمة أو الإبقاء له بالأجرة؛ لتمكّن الغاصب من القلع‏.‏ ويغرّم المستأجر المؤجّر قيمة الشّجر مقلوعاً عند الحنفيّة، وعند الشّافعيّة يرجع المستأجر بالأرش على الغاصب لشروعه في العقد على ظنّ السّلامة‏.‏ والثّاني‏:‏ للمستحقّ تملّك الغراس بقيمته قائماً، وهو قول المالكيّة إن فسخ المستحقّ قبل مضيّ المدّة، وليس له قلع الغراس ولا دفع قيمته مقلوعاً، لأنّ المكتري غرس بوجه شبهةٍ، فإن أبى المستحقّ دفع قيمة الغراس قائماً قيل للمكتري‏:‏ ادفع له قيمة الأرض، فإن أبى كانا شريكين‏:‏ المكتري بقيمة غرسه، والمستحقّ بقيمة أرضه، فإن أجاز بعد مضيّ المدّة يدفع قيمة الغراس مقلوعاً بعد طرح أجر القلع‏.‏

الثّالث‏:‏ تملّك المستحقّ للغراس بما أنفقه المستأجر على الغراس، وهو المنصوص عند الحنابلة، والمتوجّه على قول القاضي ومن وافقه أنّ غرسه كغرس الغاصب، ولهم قولٌ آخر، وهو أنّ الغراس للمستأجر، وعليه الأجرة لصاحب الأرض، ويرجع على من آجره‏.‏ والبناء كالغراس عند فقهاء المذاهب الأربعة‏.‏

استحقاق الهبة بعد التّلف

31 - للعلماء عند استحقاق الهبة التّالفة اتّجاهان‏:‏

أ - تخيير المستحقّ بين الرّجوع على الواهب أو على الموهوب له، أمّا على الواهب فلأنّه سبب إتلاف ماله، وأمّا على الموهوب له فلأنّه هو المستهلك له، وهو قول المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، غير أنّ المالكيّة جعلوا الرّجوع على الموهوب له عند تعذّر الرّجوع على الواهب، ويكون للموهوب له من الغلّة قيمة عمله وعلاجه‏.‏ فإن رجع على الواهب فلا شيء له على الموهوب له، صرّح بذلك الشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ وإن رجع على الموهوب له رجع هذا على الواهب عند الحنابلة، ذكر ذلك صاحب كشّاف القناع قولاً واحداً، وشهّره ابن رجبٍ لأنّه دخل على أنّه غير ضامنٍ لشيءٍ فهو مغرورٌ‏.‏ والخلاف يجري كذلك في رجوع الموهوب له على الواهب عند الشّافعيّة، وقيل‏:‏ لا يرجع على الواهب؛ لأنّ الواهب لم يأخذ منه عوضاً فيرجع بعوضه، وإنّما هو رجلٌ غرّه من أمرٍ قد كان له ألاّ يقبله‏.‏

ب - الرّجوع على الموهوب له دون الواهب، وهو قول الحنفيّة؛ لأنّ الهبة عقد تبرّعٍ والواهب غير عاملٍ له، فلا يستحقّ الموهوب له السّلامة، ولا يثبت به الغرور؛ ولأنّ الموهوب له يقبض لنفسه‏.‏

استحقاق الموصى به

32 - تبطل الوصيّة باستحقاق الموصى به، فإن استحقّ بعضه بقيت الوصيّة في الباقي، لأنّها تبطل بخروج الموصى به عن ملك الموصي، وبالاستحقاق تبيّن أنّه أوصى بمالٍ غير مملوكٍ له، والوصيّة بما لا يملك باطلةٌ‏.‏

استحقاق الصّداق

33 - يتّفق الفقهاء على أنّ النّكاح لا يبطل باستحقاق الصّداق، لأنّه ليس شرطاً لصحّة النّكاح‏.‏ لكنّهم يختلفون فيما يجب للزّوجة عند الاستحقاق، ولهم في ذلك اتّجاهان‏:‏

الأوّل‏:‏ الرّجوع بقيمة المتقوّم ومثل المثليّ وهو مذهب الحنفيّة، والحنابلة، وهو قولٌ للشّافعيّة، والمالكيّة معهم في المثليّ مطلقاً، وفي المتقوّم إن كان معيّناً، فإن كان متقوّماً موصوفاً رجعت بالمثل‏.‏

والثّاني‏:‏ الرّجوع بمهر المثل، وهو قول الشّافعيّة‏.‏

استحقاق العوض في الخلع

34 - اتّفق فقهاء المذاهب المشهورة على أنّ الخلع لا يبطل بخروج العوض مستحقّاً، واختلفوا فيما يجب للزّوج عند الاستحقاق، ولهم في ذلك اتّجاهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الرّجوع بالقيمة أو بالمثل، وهو مذهب الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة؛ لتعذّر تسليم العوض مع بقاء السّبب الموجب تسليمه، وهو الخلع إذ هو لا يقبل النّقض بعد تمامه‏.‏ إلاّ أنّ الحنابلة قالوا بالقيمة إن كان العوض مقوّماً، وبالمثل إن كان مثليّاً، وقال المالكيّة بوجوب القيمة إن كان معيّناً، فإن كان موصوفاً ففيه المثل‏.‏

والثّاني‏:‏ بينونة المرأة بمهر المثل، وهو قول الشّافعيّة، لأنّه المراد عند فساد العوض‏.‏

استحقاق الأضحيّة

35 - الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة على أنّ الأضحيّة المستحقّة لا تجزئ عن الذّابح ولا عن المستحقّ، استثنى الحنفيّة من ذلك ما لو ضمّنه المالك قيمتها فإنّها تجزئ عن الذّابح‏.‏ وفي لزوم البدل قال الحنفيّة، يلزم كلاًّ منهما أن يضحّي عند عدم الإجزاء، فإن فات وقت النّحر فعلى الذّابح أن يتصدّق بقيمة شاةٍ وسطٍ، وقال الحنابلة يلزمه بدلها إن تعيّنت قبل الاستحقاق، وكانت واجبةً قبل التّعيين، كأن نذرها للأضحيّة، فإن كان الاستحقاق قبل التّعيين فلا يلزمه بدلها لعدم صحّة التّعيين حينئذٍ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ تتوقّف الأضحيّة المستحقّة على إجازة المستحقّ، فإن أجاز البيع أجزأت قطعاً‏.‏

استحقاق بعض المقسوم

36 - للفقهاء في بطلان القسمة وبقائها صحيحةً - عند استحقاق بعض المقسوم - اتّجاهاتٌ‏:‏

أ - أوّلها‏:‏ بقاء القسمة صحيحةً إن كان المستحقّ بعضاً معيّناً وهو قول الحنفيّة، سواءٌ عندهم في ذلك كون الجزء المستحقّ المعيّن في نصيب أحد الشّريكين أم في نصيب كلٍّ منهما، فإن كان في نصيب أحدهما رجع على شريكه بحصّته من المستحقّ‏.‏ والشّافعيّة والحنابلة يرون بقاءها صحيحةً إن كان الاستحقاق في نصيب الشّريكين على السّواء‏.‏

ب - بطلان القسمة وهو قول الحنفيّة إن كان الاستحقاق شائعاً في الكلّ، أو شائعاً في أحد الأنصبة عند أبي يوسف‏.‏ والبطلان أيضاً قول الشّافعيّة، والحنابلة إن كان المستحقّ بعضاً شائعاً؛ لأنّ المستحقّ شريكٌ لهما وقد اقتسما من غير حضوره ولا إذنه، فأشبه ما لو كان لهما شريكٌ يعلّمانه فاقتسما دونه، ومثل الشّائع عند الشّافعيّة والحنابلة أيضاً المعيّن المستحقّ في نصيب أحدهما فقط أو في نصيب أحدهما أكثر من الآخر؛ لأنّها قسمةٌ لم تعدل فيها السّهام فكانت باطلةً‏.‏

ج - بطلان القسمة في القدر المستحقّ إن كان شائعاً وثبوت الخيار في الباقي بين إنفاذه القسمة أو إلغائها‏.‏ وهو أظهر الطّريقين عند الشّافعيّة‏.‏

د - التّخيير بين التّمسّك بالباقي وعدم الرّجوع بشيءٍ، وبين رجوعه فيما بيد شريكه بنصف قدر المستحقّ إن كان قائماً، وإلاّ فبنصف قيمته يوم قبضه، وهو قول المالكيّة إن استحقّ النّصف أو الثّلث، فإن كان المستحقّ الرّبع فلا خيار له والقسمة باقيةٌ لا تنقض، وليس له الرّجوع إلاّ بنصف قيمة ما استحقّ‏.‏

هـ - التّخيير بين إبقاء القسمة على حالها فلا يرجع بشيءٍ وبين فسخ القسمة، وهو قول المالكيّة إن استحقّ الأكثر، وهو ما زاد عن النّصف و - التّخيّر بين ردّ الباقي والاقتسام ثانياً، وبين الإبقاء على القسمة والرّجوع على الشّريك بقدر ما استحقّ، وهو قول أبي حنيفة إن استحقّ جزءٌ شائعٌ من نصيب أحدهما وحده، وتنتقض القسمة عند أبي يوسف كما تقدّم‏.‏

استحلالٌ

التّعريف

1 - هو مصدر استحلّ الشّيء‏:‏ بمعنى اتّخذه حلالاً، أو سأل غيره أن يحلّه له وتحلّلته واستحللته‏:‏ إذا سألته أن يجعلك في حلٍّ من قبله‏.‏ ويستعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ، وبمعنى اعتقاد الحلّ‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الاستحلال بمعنى‏:‏ اعتبار الشّيء حلالاً، فإن كان فيه تحليل ما حرّمه الشّارع فهو حرامٌ، وقد يكفر به إذا كان التّحريم معلوماً من الدّين بالضّرورة‏.‏ فمن استحلّ على جهة الاعتقاد محرّماً - علم تحريمه من الدّين بالضّرورة - دون عذرٍ يكفر وسبب التّكفير بهذا أنّ إنكار ما ثبت ضرورةً أنّه من دين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم فيه تكذيبٌ له صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب الفقهاء أمثلةً لذلك باستحلال القتل والزّنى، وشرب الخمر،، والسّحر‏.‏ وقد يكون الاستحلال حراماً، ويفسق به المستحلّ، لكنّه لا يكفر، كاستحلال البغاة أموال المسلمين ودماءهم‏.‏ ووجه عدم التّكفير أنّهم متأوّلون‏.‏ ويترتّب على الفسق بالاستحلال حينئذٍ عدم قبول قضاء قاضيهم عند عامّة الفقهاء، إلاّ رأياً للمالكيّة يقضي بتعقّب أقضيتهم، فما كان منها صواباً نفذ، وما كان على خلاف كذلك ردّ‏.‏ وردّ شهادتهم كنقض قضائهم كما صرّح بذلك كثيرٌ من الفقهاء‏.‏ ولتفصيل هذه الأحكام ‏(‏ر‏:‏ بغيٌ‏)‏‏.‏

وأمّا الاستحلال بمعنى‏:‏ اتّخاذ الشّيء حلالاً‏.‏ كاستحلال الفروج بطريق النّكاح، فقد يكون مكروهاً، أو مباحاً، أو مستحبّاً‏.‏

وأمّا الاستحلال بمعنى‏:‏ طلب جعل الشّخص في حلٍّ فقد يكون واجباً، كالاستحلال من الغيبة إن علم بها المغتاب، وقد يكون مباحاً كاستحلال الغاصب من المغصوب بدلاً من ردّ المغصوب، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في أحكام الغيبة والغصب‏.‏

مواطن البحث

3 - جاء لفظ الاستحلال في كثيرٍ من المواطن، كالقتل، وحدّ الزّنى، وشرب الخمر، والبغي، والرّدّة، والتّوبة، والغيبة‏.‏ ويرجع في كلّ محرّمٍ إلى موطنه لمعرفة حكم استحلاله‏.‏

استحياءٌ

التّعريف

1 - الاستحياء يأتي في اللّغة بمعانٍ متعدّدةٍ منها‏:‏

أ - بمعنى الحياء، وهو‏:‏ الانزواء والانقباض، وقيّد بعضهم هذا الانقباض ليكون استحياءً بأن يكون انقباضاً عن القبائح‏.‏ وقد ورد الاستحياء بهذا المعنى في عددٍ من آيات القرآن الكريم، منها قوله جلّ شأنه في سورة القصص‏:‏ ‏{‏فجاءته إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا‏}‏ وقوله عزّ وجلّ في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها‏}‏ وقوله عزّ من قائلٍ في سورة الأحزاب ‏{‏واللّه لا يستحيي من الحقّ‏}‏ والاستحياء - بهذا المعنى - مرغّبٌ فيه في الجملة، وتفصيله في مصطلح ‏(‏حياءٌ‏)‏‏.‏

ب - بمعنى الإبقاء على الحياة، فيقال‏:‏ استحييت فلاناً إذا تركته حيّاً ولم أقتله، ومن ذلك قوله تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏{‏يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم‏}‏ أي يبقيهم أحياءً‏.‏ واستعمل الفقهاء كلمة استحياءٍ بهذين المعنيين، فقالوا في البكر‏:‏ تستأذن في النّكاح، وإذنها صماتها، لأنّها تستحيي من النّطق‏.‏ وقالوا في الأسرى يقعون في يد المسلمين‏:‏ إن شاء أمير المؤمنين استحياهم، وإن شاء قتلهم‏.‏ وكثيراً ما يعبّرون عن الاستحياء بلفظ الإبقاء على الحياة، فيقولون في الصّغير يأبى الرّضاع من غير أمّه‏:‏ تجبر أمّه على إرضاعه إبقاءً على حياته الاستحياء بمعنى إدامة الحياة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الإحياءٌ‏:‏

2 - كلمة «إحياءٌ» تستعمل في إيجاد الحياة فيما لا حياة فيه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً فأحياكم‏}‏‏.‏ أمّا كلمة «استحياءٍ» فإنّها تستعمل في إدامة الحياة الموجودة، وعدم إعدامها، كما تقدّم في الأمثلة السّابقة‏.‏ فالفرق بينهما أنّ الإحياء مسبوقٌ بالعدم، بخلاف الاستحياء‏.‏

صفته‏:‏ الحكم التّكليفي

3 - لا يمكن اطّراد الاستحياء على حكمٍ واحدٍ، نظراً لاختلاف أحوال الاستحياء، بل تتعاقبه أكثر الأحكام التّكليفيّة‏.‏

فأحياناً يكون الاستحياء واجباً، كما هو الحال في استحياء من بذلنا له الأمان ‏(‏ر‏:‏ أمانٌ‏)‏، واستحياء الصّغير بالإجبار على الرّضاعة ‏(‏ر‏:‏ رضاعٌ‏)‏، واستحياء الإنسان العاجز عن الكسب، والحيوان المحبوس بالإنفاق عليه ‏(‏ر‏:‏ نفقةٌ‏)‏، واستحياء الذّراريّ والنّساء من السّبي ‏(‏ر‏:‏ سبيٌ‏)‏، واستحياء الجنين في بطن أمّه ‏(‏ر‏:‏ إجهاضٌ‏)‏‏.‏

وأحياناً يكون الاستحياء مكروهاً، كاستحياء الحيوان المؤذي بطبعه‏.‏

وأحياناً يكون الاستحياء محرّماً، كاستحياء من وجب قتله في حدٍّ ‏(‏ر‏:‏ حدٌّ‏)‏، واستحياء ما يستفيد منه جنود العدوّ قطعاً في حربهم لنا، كالحيوانات الّتي عجزنا عن حملها إلى بلاد المسلمين ‏(‏ر‏:‏ جهادٌ‏)‏‏.‏

وأحياناً يكون الاستحياء مباحاً، كتخيير الإمام في أسرى المشركين بين القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق‏.‏

المستحيي

إمّا أن يكون هو نفس المستحيا ‏(‏كاستحياء الإنسان نفسه‏)‏ أو غيره‏.‏

استحياء الإنسان نفسه

4 - يجب على المرء أن يعمل على استحياء نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويكون ذلك بأمرين‏:‏

أوّلهما‏:‏ بدفع التّلف عنها بإزالة سببه، كالجوع والعطش، وإطفاء الحريق أو الهرب منه، كما إذا احترقت سفينةٌ ولم يمكن إطفاؤها، وغلب على الظّنّ أنّ ركابها لو ألقوا أنفسهم في الماء نجوا، وجب عليهم ذلك‏.‏

وليس من هذا تناول الدّواء؛ لأنّ المرض غير مفضٍ إلى الموت حتماً؛ ولأنّ الشّفاء بتناول الدّواء غير مقطوعٍ به، لكن التّداوي مطلوبٌ شرعاً؛ لحديث «تداووا عباد اللّه» فإن لم يكن في دفع التّلف عن نفسه إتلافٌ للغير، أو لعضوٍ من أعضائه، أو كان فيه إتلافٌ لنفسٍ غير محترمةٍ وجب عليه استحياء نفسه، كما هو الحال في طلب الزّاد ممّن هو معه وهو مستغنٍ عنه، أو في دفع الصّائل على النّفس‏.‏ وإن كان في إحياء نفسه إتلافٌ لنفسٍ محترمةٍ، فإنّه لا يجوز له الإقدام على هذا الإتلاف إحياءً لنفسه؛ لأنّ الضّرر لا يزال بضرر مثله‏.‏

ثانيهما‏:‏ عدم الإقدام على إماتة نفسه بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، أمّا إماتة نفسه بشكلٍ مباشرٍ كما إذا بعج بطنه بحديدةٍ، أو ألقى نفسه من شاهقٍ ليموت، فمات، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من تردّى من جبلٍ فهو في نار جهنّم، يتردّى خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن تحسّى سمّاً فسمّه بيده، يتحسّاه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن وجأ بطنه بحديدةٍ فحديدته في يده، يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً» وتفصيل ذلك في كتاب الجنايات من كتب الفقه، أو كتاب الحظر والإباحة، عند كلامهم على الانتحار ‏(‏ر‏:‏ انتحارٌ‏)‏‏.‏

وأمّا إماتة نفسه بشكلٍ غير مباشرٍ، كما إذا اقتحم عدوّاً، أو مجموعةً من اللّصوص، وهو موقنٌ أنّه مقتولٌ لا محالة، دون أن يقتل منهم أحداً، أو يوقع فيهم نكايةً، أو يؤثّر فيهم أثراً ينتفع به المسلمون؛ لأنّ هذا إلقاءٌ للنّفس في التّهلكة، واللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة‏}‏، ومحلّ تفصيل ذلك كتاب الجهاد من كتب الفقه ‏(‏ر‏:‏ جهادٌ‏)‏‏.‏

5 - واستحياء نفسه مقدّمٌ على استحياء غيره؛ لأنّ حرمة نفسه عليه فوق حرمة نفسٍ أخرى، وبناءً على ذلك فإنّ من قتل نفسه كان إثمه أكثر ممّن قتل غيره، ومن هنا قرّر الفقهاء أنّ المرء يكلّف بالإنفاق على نفسه أوّلاً، ثمّ على غيره كما هو معروفٌ في النّفقات ‏(‏ر‏:‏ نفقةٌ‏)‏، وكمن اضطرّ إلى طعام غيره استحياءً لنفسه، وصاحب الطّعام مضطرٌّ لطعامه استحياءً لنفسه أيضاً، فصاحب الطّعام أولى به من غيره‏.‏

استحياء الإنسان غيره

6 - يشترط في المستحيي لغيره حتّى يجب عليه الاستحياء ما يلي‏:‏

1 - أن يكون المستحيي مكلّفاً عالماً بحاجة المستحيا إلى الاستحياء؛ لأنّه لا يثبت الوجوب على غير المكلّف‏.‏

2 - أن يكون قادراً على الاستحياء، فإن لم يكن قادراً عليه فإنّه لا يكلّف به، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها‏}‏، قال في المغني‏:‏ «كلّ من رأى إنساناً في مهلكةٍ فلم ينجّه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه وقد أساء» وقال أبو الخطّاب‏:‏ يضمنه لأنّه لم ينجّه من الهلاك مع قدرته عليه، كما لو منعه من الطّعام والشّراب، فالخلاف واقعٌ في الضّمان، لا في الاستحياء، وتفصيل ذلك في الجنايات ‏(‏ر‏:‏ جنايةٌ‏)‏‏.‏ فإذا تحقّقت هذه الشّروط في مجموعةٍ من النّاس وجب الاستحياء على الأقرب منهم إلى المستحيا فالأقرب، على حسب ترتيبهم في النّفقة ‏(‏ر‏:‏ نفقةٌ‏)‏‏.‏ فإذا امتنع أحدهم عن الاستحياء انتقل الوجوب إلى من يليه، إن كان الوقت لا يتّسع إلى إجباره على الاستحياء، وكذا إن اختلّ فيه شرطٌ من الشّروط السّابقة، إلى أن يصل الوجوب إلى من علم من النّاس‏.‏

المستحيا

7 - يشترط في المستحيا حتّى يجب استحياؤه أن يكون ذا حياةٍ محترمةٍ - سواءٌ أكان إنساناً أم حيواناً - وتبدأ الحياة المحترمة بنفخ الرّوح في الجنين بلا خلافٍ‏.‏ وفي ابتدائها قبل نفخ الرّوح خلافٌ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إجهاضٌ‏)‏‏.‏ وتهدر هذه الحرمة للحياة ويسقط وجوب الاستحياء بما يلي‏:‏

أ - بإهدار اللّه تعالى لها أصلاً، كما هو الحال في إهدار حرمة حياة الخنزير‏.‏

ب - أو بتصرّفه تصرّفاً اعتبره الشّارع موجباً لإهدار دمه، كقتال المسلمين ‏(‏ر‏:‏ بغيٌ‏)‏ ‏(‏وجهادٌ‏)‏ والقتل ‏(‏ر‏:‏ جنايةٌ‏)‏ والرّدّة ‏(‏ر‏:‏ ردّةٌ‏)‏ وزنى المحصن ‏(‏ر‏:‏ إحصانٌ‏)‏ والسّحر عند البعض ‏(‏ربّ سحرٍ‏)‏‏.‏

ج - أو بالضّرر، بأصل خلقته، كالحيوانات المؤذية بأصل خلقتها، كالخمس الفواسق الّتي نصّ عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «خمسٌ من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناحٌ‏:‏ الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» وزاد أبو داود «السّبع العادي» ‏(‏المتعدّي‏)‏ ونحو ذلك‏.‏

د - أو بالضّرر وقوعاً إذا لم يمكن دفع ضرره إلاّ بقتله، كالصّائل من الحيوان والإنسان‏.‏

الإجبار على الاستحياء

9 - إذا تعيّن وجوب الاستحياء أجبر عليه عند توفّر الشّروط السّابقة وتعيّن لذلك، كما إذا رفض الصّغير الرّضاع من ثديٍ غير ثدي أمّه، فإنّها تجبر على إرضاعه استحياءً له‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ رضاعٌ‏)‏‏.‏

وجوب الاستحياء في الزّمن الّذي يتّسع له

10 - يجب الاستحياء في الزّمن الّذي يمكن أن يتحقّق به الاستحياء، وأوّله وقت الحاجة إلى الاستحياء، وآخره هو الفراغ من الاستحياء، فإنقاذ الغريق حدّد له الشّرع الزّمان، فأوّله‏:‏ ما يلي زمن السّقوط، وآخره الفراغ من إنقاذه‏.‏